title3

 banner3333

 

السببية

 السببية 

بقلم رضا زيدان. 

   تناول القرآن قضية وجود الله كمسلّمة فطرية يتّفق عليها بنو آدم، ومع ذلك قدّم أدلة عقلية لإيقاظ الفطرة، منها: دليل السببية، حيث قال الله في كتابه: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) [الطور: 35]. فلكلّ حدث مسبِّب أمر ثابت مفطور في العقول منذ الصغر؛ قال شيخ الاسلام ابن تيمية: "وذلك أنه قد عُلم بضرورة العقل أنه لا بدّ من موجود قديم غني عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَث لا بدّ له من محدِث، والممكن لا بدّ له من واجب ... فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقًا خلقهم. 

   ولذلك على مدار التاريخ البشري لم يشكّك في وجود الخالق إلا شرذمة نادرة. ولأن السببية هي أكثر الأدلة شهرة فقد تناولتها كل كتب الفلسفة تقريبًا من قبل أرسطو وبعده، ولكنها لم تهاجم بالشكل القوي إلا علي لسان هيوم، الذي يعتبر ناقلًا لكلام أبي حامد الغزالي نصًّا حولها، مع اختلاف هدف نقد السببية من كلاهما، واختلاف جذرية النفي؛ فهيوم ينكر السببية مطلقًا، أما الغزالي فيكتفي بنفي السببية العادية، وليس مطلق السببية. ومن عصر هيوم إلى الآن في كل مناقشة إلحادية تقريبًا تجد الحديث عن السببية، ولأن العلم التجريبي قائم على السببية والاستقراء، وتفاخر به التجريبيون كأنه المخلص من خرافات الفلاسفة كانت السببية أيضًا شوكة في حلقومهم.  

   يقول ابن حزم عن السببية:  "الاستدلال على الشيء لا يكون إلا في زمان، ولا بدّ ضرورة أن يعلم ذلك بأوّل العقل لأنه قد علم بضرورة العقل أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت، وليس بين أوّل أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة، لا دقيقة ولا جليلة، ولا سبيل على ذلك، فصحّ أنها ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال" .  

   وقال أيضًا: "الصبي الصغير في أوّل تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى، وإذا زدته ثالثة سرّ، وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء، وإن كان لا يتنبه لتحديد ما يعرف من ذلك. ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان، فإنك إذا وقفته قسرًا بكى ونزع إلى القعود علمًا منه بأنه لا يكون قائمًا قاعدًا معًا" . 

   أما التناول التجريبي فكان بزعامة هيوم حيث يقول: 

   "رؤية أي شيئين أو فعلين، مهما تكن العلاقة بينهما، لا يمكن أن تعطينا أي فكرة عن قوة، أو ارتباط بينهما، وأن هذه الفكرة تنشأ عن تكرار وجودهما معًا، وأن التكرار لا يكشف ولا يحدث أي شيء في الموضوعات، وإنما يؤثّر فقط في العقل بذلك الانتقال المعتاد الذي يُحدثه، وأن هذا الانتقال المعتاد من العلة إلى المعلول هو: القوة والضرورة ...".  

   ثم يقول: "وليست لدينا أية فكرة عن العلة والمعلول غير فكرة عن أشياء كانت مرتبطة دائمًا، وفي جميع الأحوال الماضية بدت غير منفصلة بعضها عن بعض، وليس في وسعنا النفوذ إلى سبب هذا الارتباط. وإنما نحن نلاحظ هذه الواقعة فقط، ونجد أنه تبعًا لهذا الارتباط المستمرّ فإن الأشياء تتّحد بالضرورة في الخيال. فإذا حضر انطباع الواحد كوَّنا نحن في الحال فكرة زميله المرتبط به في العادة ".

   النقد: 

   كلام هيوم يرتكز على نقطتين: تكرار التجارب، ضرورة نفسية وليست موضوعية.  

   أما التكرار فشيء عحيب أن يستدلّ به فتكرار تعاقب الليل والنهار أمام العقل أدعي لخلق معنى السببية في العقل واعتقاد أن أحدهما سبب للآخر، وتفسير العلة بالإدراك المتتابع خطأ أي أنّك تدرك الشيء أ ثمّ تدرك الشيء ب فإذا تكرّر معنى مشترك بينهما (العلة) جلب العقل هذا المعني بينهما وهذا منقوض بالكثير فمثلًا: حركة اليد والقلم أثناء الكتابة متلازمة زمنًا ومكانًا ومع ذلك أدرك العقل سببيتهما!  

   ثم إن الضرورة التي تكلم عنها من أين للعقل بها؟! وكيف استطاع التمييز بين مجرّد التكرار والعلية؟! 

   التكرار ليس بالعملية السهلة التي يدّعيها هيوم وليس جبرًا من الطبيعة، وكان من الممكن أن نسلّم جزئيًا لكلامه لو كان التكرار هو إدراك المتماثلات فقط، بل على العكس اشتقاق قانون مثل: السببية وغيره من القوانين من متشابهات من وجه مختلفات من وجه، فالذهن يلاحظ تكرارية بين وجود الشيء والتالي له من وجهة نظر المتلقي وليس جبرًا؛ فالتكرار أو إدراك التماثل بين الأشياء للحكم عليها يصحّ لو كانت الأشياء من نوع ذات الهوية، ولكن الغالب حالات تماثل وإدراكه يعني وجهة نظر، التي تكون بدورها سابقة على التكرار نفسه.  

   تقسيم الحيوان مثلا للأشياء بصلاحية للأكل من عدمها يكون بفكره ونظرته هو. فالحكم على الأحداث أنها تكرار منا نحن وليس العكس. بمعني آخر: نحن من أنشأ الاستعداد نفسه للنظر. 

   ولأن هيوم تجريبي متطرّف فسنأتي له بعمل تجريبي يقتل فكرة التكرار، لأن محاولة واحدة فقط تأتي باعتقاد تعني دمار فكرته:  

   قام بياجيه بمسك سيجارة بالقرب من أنوف جراء صغيرة، وفي الحال استنشقتها وأدارت ذيولها، وبعد أيام بدون تعرّض لأيّ دخان أو غيره كان لها نفس ردّ الفعل لمجرّد رؤية منظر السيجارة، بل ولو قطعة بيضاء ملفوفة كالسيجارة فيصيبها العطس. 

   بما سبق وغيره يصبح تفسير هيوم للسببية هباء منثورًا.  

   فإدراك أن شيئًا سبب لآخر يمكن أن يكون من حادثة واحدة دون تكرار أصلًا، ولا يحتاج لسلسلة من الأحداث المتماثلة لكي يوقن السببية، بل لا تزيده الأحداث يقينًا أصلًا لو اكتسبه من حادثة واحدة. 

   هيوم وضع نفسه في مأزق بفكرة الاقتران، لأنّ هذا الارتباط إما أن يكون بين فكرتين فسيكون إدراك غير تجريبي وهو حسي متطرف!، وإما بين شيئين في الخارج وبالتالي اكتسبت السببية الموضوعية وهذا ما نريد. 

   ونفس الفكرة من باب أولى على الذاتية.  

   إذا كان العقل مجرّد صفحة بيضاء فأين نجد هذا الفعل الإلزامي للنفس لمجرّد التعاقب؟! هل العقل مبرمج على ذلك؟ أم يفرض ذلك؟ 

   كلام هيوم عن العادة غير منطقي، فإن الملاحظ أن العادة تنسي القانون في غالب الأحيان، فالتكرار يحطّم القانون وليس خالقًا الاعتقاد، فنحن حين نتعلّم ركوب الدرجات نركّز جدًّا على القانون ثم بالتكرار ننساه، كذلك نحن لا نشعر بالساعة إلا حين توقفها والعادة من سماعها حطّمت معدّل حركتها في ذهننا. 

   الحواس قبل تعلّم أيّ شيء لا بدّ لها من محفز أو مثير من خارجها، هذا المحفز نفسه ناشئ عن سببية وقوع مؤثّر على الحواس، والحواس لم تكن لتتحفّز إلا بمحفّز، فهل هذا المحفّز من الحواس نفسها؟  

   أولًا: هل المحفّز غير الحواس؟ بالطبع نعم، ولكن ما الذي يدرك هذه العملية التبادلية بين الحواس وما يحفزها؟ الذي يدرك ذلك هو الوعي، فللوعي أسبقية يدرك بها أن هناك سببية من خلال هذه العملية. 

   ومن هنا ندخل لشبهة أخرى حول السببية: هل السببية متعلّقة بعالمنا فقط أم متعلّقة بأيّ وجود؟ وكيف تعمّمها رغم أنها من كوننا فقط؟! وهل تطبّق على الله؟ نقول: هل يُستدلّ بناء على السببية بافتراض عوالم أخري ثم تقول: هل السببية تطبّق عليها أم لا؟! 

   إن السببية ليست شيئًا حادثًا إنما قانون يتعلّق بالوجود من حيث هو هو، فالعلاقة أزلية على كل موجود والتي يدركها العقل أولًا ليس هذه إنما يدرك سببية بين حوادث، ثم يعمّمها على كل موجود؛ فالقانون الأزلي قانون متعلّق بكل موجود قديم وحادث، والقانون الكوني بين الحوادث فقط، والثاني موصل للآخر لكن ليس هو والذي يفعله الملحد هو الخلط بين الكوني والأزلي ثم يأتي ويقول لنا: من خلق الله إذًا؟! أوليست السببية الأزلية لمنع التسلسل؟! فكيف تقدح فيها بالكونية الحادثة؟!، كذلك الموجودات فتصوّر الوجود من جزئيات، لكن تصوّر الوجود المطلق تجاوزها فهل نطبق ما على الجزئي على الكلي؟! وهل يتصوّر كونًا جديدًا به شيء غير موجود ولا معدوم؟! ينتج من ذلك أن القدح في السببية الكونية هو قدح في كل العلوم التجريبيبة القائمة عليها، وإنكار لبديهة عقلية كامنة في النفس وهي السببية المتعلّق بجنس أي موجود. 

   ونختم بإلزام لمن يعتبر السببية أو أيّ من الأوليات العقلية تجريبية وليست ضرورية فنقول: قريب من قولنا في التفريق بين السببية المتعلّقة بكوننا فقط، والأزلية كقانون عقلي هو الإستحالة العادية، والإستحالة المطلقة؛ فالعقل يدرك أن طيران إنسان مستحيل فيزيائيًا (عاديًا)، ولكنّه غير مستحيل عقلًا؛ فمن الممكن أن يوجد إنسان ذو عضلات مرنة تمكّنه من ذلك بخلاف اجتماع النقيضين على نفس المحلّ في نفس الزمن فمستحيل عقلا أزلًا، كاجتماع الوجود والعدم على نفس المحلّ في نفس الزمن، فيلزم التجريبي عدم التفريق بينهما وبالتالي الإقرار بأنه لا استحالة!، وعلى ذلك يمكن أن يكون هو نفسه موجود وغير موجود!، أو يقرّ بالتفريق ونسـأله حينها من أين للعقل التفريق وكلاهما تجريبي على كلامك؟!  

   فثبت بذلك أن الحقل المعرفي الذي يدركه العقل أوسع بكثير من الحيز الفيزيائي الذي يتعامل معه، بل أن الأوّليات العقلية تكون موجودة قبل التعامل معه وجودًا بالقوة وهو مستحثّ لها فقط. 

   الخلاصة: إنكار السببية للفرار من وجود الله يهدم بنيان العلم الطبيعي والرياضي الذي يتشبّث به كل ملحد في الوصول للحقائق.