title3

 banner3333

 

السجل الأحفوري والداروينية

السجل الأحفوري والداروينية

بقلم رضا زيدان.

   مدخل:

   يقوم كتاب أصل الأنواع لتشارلز داروين على فكرتين رئيسيتين: الأصل المشترك والاصطفاء الطبيعي. أما الفكرة الأولى فقد أكّد فيها على أن جميع أشكال الحياة قد انحدرت من أصل واحد مشترك في وقت ما من الماضي السحيق، ومن ثم فكل الكائنات العضوية بالنسبة لداروين أصلها كائن بدائي، تطور تدريجيًا إلى أشكال أخرى جديدة من الحياة، لينتج في النهاية بعد ملايين الأجيال كل أشكال الحياة المعقّدة اليوم. واعتاد البيولوجيون على توصيف هذه الفكرة مثلما فعل داروين برسم شجرة كبيرة متفرّعة، فيمثّل جذع شجرة الحياة كما تخيّلها داروين الكائن المتعضي البدائي الأوّل، في حين تمثّل الفروع والأغصان الأشكال الحديثة التي تطوّرت عنه[1]. أما الفكرة الثانية فهي الاصطفاء الطبيعي، وهي عملية تعمل على التباينات العشوائية في الصفات أو الخصائص المرتبطة بالكائن الحي وذريته، وقد قام داروين بصياغة هذه الفكرة محاكاة للعملية المشهورة بالاصطفاء الصناعي، أو التهجين، فقد كان تهجين الحيوانات المدجّنة كالكلاب والأحصنة متداولًا في القرن التاسع عشر. واستطاع الإنسان تعديل خصائص مجموعة من الحيوانات عبر السماح لحيوانات ذات سمات معينة دون غيرها بالتكاثر، ومن هنا تصوّر داروين أن الطبيعة تستطيع لعب دور المصطفي أو المربي؛ فالتغيّرات المناخية والعوامل البيئية الأخرى قادرة على إحداث تغيير في صفات وخصائص الكائن نوعيًا. ومن هنا تُستبعد فكرة الخلق، حيث أن الأنواع لم تُخلق، بل هي من نتاج الآلية الطبيعية: الاصطفاء الطبيعي.

   انطلق داروين من حقيقة وجود تباينات صغيرة في الخصائص يمكن ملاحظتها خلال عمليات التهجين أو بعض التأثيرات الطبيعية على شكل بعض الكائنات: إلى دعوى شاملة، وهي أن هذه التأثيرات بمرور ملايين السنين ستتحوّل تدريجيًا إلى تباينات كبيرة. وعلى هذا فلا بدّ أن هناك أشكالًا انتقالية يُبحث عنها تاريخيًا في الحفريات[2]. لكن، قبل الخوض في تصديق أو تكذيب الداروينية ينبغي أولًا أن ننبّه إلى كونها نظرية تاريخية في معظمها، حيث: "تركّز النظرية التطورية على أحداث منفردة في الماضي. إن الأحافير على وجه الخصوص - وهي الموضوع الذي يعتمد عليه التنظير التطوري - تمثّل أحداثًا تاريخيَّةً منفردةً وغيرَ متكررةٍ بخلاف حالة حركة الكواكب. وبغضِّ النّظر عن كيفية نشوء الحياة - سواء بالتصميم الذكي أو النشوء العشوائي- وبغضّ النظر عن كيفية نشوء الزرافة أو خنزير الأرض - سواء بالتصميم الذكي أو بالانتخاب الطبيعي- فإنَّ هذه الأحداثَ لا تتكرّر. فالماضي قد مضى. وكما يقول عالم الوراثة ثيودوسيوس دوبجانسكي: "الأحداثُ التطوريةُ أحداثٌ وحيدةٌ منفردةٌ غيرً متكررةٍ وغير معكوسة. فمن المستحيل تحويل فقاري أرضي إلى سمكة كما أنه من المستحيل الإتيان بالتحول المعاكس"[3].

   باختصار هناك تكافؤ بين نظرية التطوّر والتصميم من حيث التاريخ، وليس كما يوهم أنصار التطوّر بأن نظريتهم تجريبية أما التصميم فتأملية أو فلسفية أو دينية. والحق أن التطوّر نظرية تاريخية ينطبق عليها ما ينطبق على الفرضيات الموجودة في العلوم الإنسانية، ويوضّح هذه النقطة عميد التطوريين الأمريكيين - حتى وفاته 2005م - بجامعة هارفارد إرنست ماير، في كتابه الأخير (ما الذي يجعل علم الأحياء مميّزًا؟) فيقول: "لا غِنًى عن معرفة التاريخ لتفسير كل جوانب العالم الحيّ الذي يتضمّن البعد التاريخي، ويقدّم علمُ الأحياء التطوّري طرائقَهُ الخاصةَ للحصول على إجابات وتفسيرات -وخصوصًا في الحالات التي يتعذّر فيها إجراء التجارب -، إنها الروايات التاريخية أو السيناريوهات المؤقّتة"[4]. ومن الصعب الاقتناع بأنَّ الروايات التاريخية أو السيناريوهات المؤقّتة أو الفرضيات المعقولة هي المادةُ الخام لعلم حقيقي دقيق. ومع ذلك يتعامل الداروينيون مع السجل الأحفوري كورقة رابحة دومًا. فهم يتركون السؤال حول كيفية حدوث التطوّر جانبًا ويدافعون دوما عن فكرة أنَّ السّجلَّ الأحفوريَّ يثبت حدوث التطور، وبالتالي فإنهم يدَّعون أنَّ الأحافيرَ تثبتْ أنَّ تاريخَ الحياة على الأرض هو شجرةٌ متفرّعةٌ تدريجيًّا، تتفرّع فيها الكائنات الحيّة عبر عدد لا يحصى من الأجيال التي تتحسّن تدريجيًا مع الزمن. أي أنّ السجل الأحفوري يثبت بشكل ساحق حدوث التغيرات التطوّرية الكبيرة، فهل هذا صحيح؟

   الانفجار الكامبري ونظرية داروين

   قال الدكتور جونثان ويلز حامل شهادة الدكتوراه في علم الأحياء الخلوي -: "إنْ كانت نظرية داروين صحيحةً وكان السجلُ الأحفوريُّ كاملًا فيجب أنْ تُظهرَ الأحافيرُ سلالاتٍ مستمرةً من المخلوقات تنتقل عبرها المجموعات الرئيسية بصورة دقيقة من شكل إلى آخر بعدد هائل من الأشكال الانتقالية (تمامًا كقرص الألوان الذي تتدرّج فيه الألوان بشكل دقيق وناعم من لون لآخر). إنَّ الاختلافات التي تفصّل بين المجموعات الرئيسية في التصنيف (مثلًا، بين الطيور ونجم البحر) كبيرةٌ جدًّا ولا تستطيع النظرية الداروينية تجاهل حقيقة الحاجة لعدد كبير من الأشكال الانتقالية، حتى أنَّ داروين نفسه كتب في أصل الأنواع: "تلتقي كلُّ الأنواع الحيَّة التي تنتمي لجنس معين - وفق نظرية الانتخاب الطبيعي- عند نوع واحد، هو سلف لكل أنواع هذا الجنس. امتلك هذا النوع السلفي تنوّعات ليست أكثر من التنوّعات التي نراها ضمن الأنواع الموجودة حاليًا من هذا الجنس. انقرض هذا النوعُ حاليًا وتحوّل. يرتبط هذا النوع القديم مع أنواع أخرى قديمة -تعتبر سلفًا لأجناس أخرى - بنوع سلف واحد. وهكذا حتى الوصول إلى السلف المشترك لكل صنف (class) كبير، لذا لا بدّ أن يكون عدد الأنواع الوسيطة الانتقالية بين كل الكائنات الحيّة أو المنقرضة عددًا هائلًا جدًّا. لا بُدَّ أن تكون كل هذه الكائنات قد عاشت على الأرض إن كانت هذه النظرية صحيحة"[5][6].

   قال الدكتور جونثان ويلز حامل شهادة الدكتوراه في علم الأحياء الخلوي -: "عندما كتب داروين كتابه أصل الأنواع كانت أقدم أحفورة معروفة من العصر الجيولوجي الكامبري (سمي بذلك نسبة إلى صخور في كامبريا ويلز)، لكن أحفورات العصر الكامبري لا تلائم نظرية داروين، وبدلًا من البدء بنوع أو عدة أنواع انفصلت بشكل تدريجي عبر ملايين السنين إلى عوائل ثم إلى رتب ثم إلى صفوف ثم إلى شعب؛ كانت البداية في العصر الكامبري بظهور مفاجئ كالانفجار لعدة رتب وصفوف من حيوانات متمايزة بشكل كامل، وبعبارة أخرى: المرحلة العليا من الهرم الحيوي تظهر وكأنها في قاعدته. وكان داروين على علم بهذا، واعتبر ذلك عقبة رئيسية أمام نظريته؛ فكتب في أصل الأنواع: "إن كانت النظرية صحيحة فمما لا شكّ فيه أنه قبل طبقة العصر الكامبري السفلى توجد عدة طبقات مترسّبة تشير إلى زمن احتشدت فيه الكائنات الحية" واعترف بأن: "عدة تقسيمات رئيسية للمملكة الحيوانية ظهرت فجأة في أسفل الصخور الحاوية على الأحافير" وسماها داروين بـ "المشكلة الرئيسية التي تعترض النظرية"، ورآها: "عصية على التفسير في وقتنا هذا، وقد تفتح جدلا مُحقا ضد الأفكار التي عرضناها هنا"[7].

   وقال مايكل دنتون حامل شهادة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية -: "في زمن داروين لم يكن يوجد أي أحافير لما قبل 600 مليون سنة. لكن منذ ذلك الحين اكتشفت العديدُ من الأحافير وحيدة الخلية والجرثومية في صخور يعود تاريخها لبضعة مليارات من السنين السابقة للعصر الكامبري، وتم التعرفُ أيضا على عدة أنماط جديدة من الكائنات التي لم تكن معروفة منذ مائة سنة في (Ediacara وBurgess Shale) الصخور الكامبرية وما قبل الكامبرية. لكن لم يسلّط أيٌّ من هذه الاكتشافات الضوء على أصل أو علاقات شعب الحيوانات الأساسية. تثبت المجموعات المجهولة المكتشفة حديثا، سواء كانت حية أو متحجرة، بشكل مطّرد أنها مميزة ومنفصلة ولا يمكن أنْ تُفسرَ بكونها روابط انتقالية بالطريقة التي تتطلبها النظرية التطورية"[8].

   أما الآن فقد أصبح فهمنا للعصر الكامبري أفضل بكثير من عصر داروين بعد الاكتشاف المستمرّ للعديد من أماكن تجمّع الأحافير الأقدم من العصر الكامبري، وما حدث هو أن المشكلة قد تفاقمت، والعديد من علماء الأحافير الآن مقتنعون بأن مجموعات الحيوانات الرئيسية ظهرت حقًا بشكل مفاجئ في بداية العصر الكامبري[9].

   "لقد وجد علماء الأحافير العديد من الأحافير، لكنهم لم يجدوا العدد الهائل من الكائنات الوسيطة التي كانت موجودة يومًا ما كما تفترض نظرية داروين. وبدلًا من ملء الفجوات التي تنتشر في السجل الأحفوري، فإنَّ الاكتشافات الحفرية الجديدة أوجدت أيضًا فجوات جديدة. ومن المسلّم به أنّه وجدت بعضَ الأنماط الغريبة في الأحافير التي كشفت سمات مشتركة بين كائنات حيّة مختلفة جدًّا، وبالتالي فشلت في الانسجام مع المجموعات التصنيفية الموجودة حاليًا. لدينا مثالان مشهوران على هذه الحالة: الأركيوبتركس - طائر قديم بسمات حيوان زاحف -، والبلاتيبوس ذو المنقارِ الشبيه بالبط والفرْوِ الشبيه بالثدييات. ومع ذلك تميل هذه الكائنات الفريدة للانتماء إلى إحدى المجموعات التصنيفية؛ فهي لا تملك سمات مشتركة بنسب متساوية بين مجموعتين تصنيفيتين أو أكثر. خُذ الأركيوبتركس كمثال، يبدو الريش في هذا الحيوان مطابقًا للطيور الحالية وله بنية انسيابية حقيقية ملائمة للطيران. يملك الأركيوبتركس مجموعة من الخصائص التكيّفية الشبيهة بتكيّف الطيور اليوم بالإضافة لخصائص متعدّدة من الزواحف، بما في ذلك الذيل العظمي ووجود الأسنان في المنقار والمخالب في الأجنحة. وتبدو حالة البلاتيبوس كحالة الأركيوبتركس، يضع البلاتيبوس البيوض وله منقارٌ شبيهٌ بالبطّ، لكنّه يشبه الثدييات في امتلاكه للفراء وإرضاعه للصغار. ويدرج علماء التصنيف البلاتيبوس ضمن الثدييات، ولم يعتبره أحد شكلًا انتقاليًا بين الثدييات والطيور. وتشبه معظم الروابط المفقودة المفترضة هذه الحيوانات، وهي تصنف في إحدى المجموعات التصنيفية الحيّة ولا تدرج بكونها ضمن مجموعة تصنيفية مختلطة[10]. وبشكل عام:

   "كلما ازدادَ عددُ الأحافير المكتشفة من قبل علماء الأحافير ازداد وضوح تعارض الأحافير المكتشفة مع ما تفترضه نظرية داروين. إنَّ نمطَ الأحافير المكتشفة ليس نمطًا متشعّبا بشكل تدريجي، بل إنَّه يشكّل عناقيد مجتمعة تفصل بينها فراغات. قد لا يكون ذلك مفاجئًا كونه نفس النمط الذي نجده بين الكائنات الحية اليوم. فمثلًا توجد العديدُ من سلالات الأحصنة لكنها منعزلةٌ بشكل واضح عن الماشية، وبالمثل يوجد العديد من تنوّعات الذرة، لكن لن يصعبَ على أحد التفريق بينها وبين القمح، وتتجمع التنوّعات حول نمط مورفولوجي - من اليونانية وتعني الشكل أو البنية - أساسي، بدلًا من اندماجها فيما بينها على نحو سلس[11].

   وقال البروفسور الأمريكي فيليب جونسون: "تتنبأ النظرية الداروينية "بمخروط من التنوّع المتزايد" عند تشكّل أوّل كائن حي، أو أوّل نوع حيواني، تنوَّع بالتدريج وباستمرار ليكوِّن المستويات العليا من الترتيب التصنيفي. ولكن سجّل الحفريات الحيواني أقرب إلى المخروط المقلوب رأسًا على عقب، مع وجود الشعب في البداية وتناقصها بعد ذلك"[12].

   وذكر نيلز إلدرج - المختص بعلم الأحافير التطوري وحامل شهادة الدكتوراه في الجيولوجيا - في محاضرة له أن إدراك "غياب التغيّرات" بحد ذاته "نمط مثير للاهتمام"، أو كما وصفه "إن الثبات شيء من البيانات"، والمقصود بمصطلح الثبات (Stasis) النمط الذي تبديه معظم الأنواع خلال فترات ظهورها التاريخية الجيولوجية من عدم التغيّر بشكل ملموس، أو التأرجح الشكلي الظاهري البسيط، الذي يغيب عنه التوجيه الواضح، وأردف إلدرج قائلًا: "كان ينظر تقلديا لعجز علماء الأحافير عن العثور عما أخبرهم بضرورة وجود علماء البيولوجيا التطورية على أنه نتيجة مزيفة لفقد أجزاء من السجل الأحفوري، فجاء مفهوم الثبات محرجا للغاية"[13]. ولتسهيل ما سبق سنعرض السمات الأساسية للسجل الأحفوري:

   الانفجار الكامبري: ظهرت الكثير من أشكال الحياة الحيوانية في السجلات الصخرية مع بداية العصر الكامبري، حيث نشأت معظم شعب الحيوانات المعروفة (أكثر من 95%) في هذه الفترة الصغيرة من عمر الأرض (استمرت نحو 5 إلى10 مليون سنة فقط وفق التقديرات الحالية). توقّف بعدها ظهور المجموعات التابعة للشُّعبِ الحيوانية - مع بعض الاستثناءات - خلال السجل الأحفوري. وتؤلّف الشعب المجموعات الرئيسية لأشكال الحياة الحيوانية. ويمكن تمييز الشعب الحيوانية بالاختلافات الشكلية الكبيرة، وبالمخطّط الجسدي العام. ويجب على كل نظرية تحاول تفسير ظهور المجموعات التصنيفية الرئيسية داخل المملكة الحيوانية أنْ تفسر كيفية ظهور كل تلك الاختلافات في المخطط الجسدي العام على نحو مفاجئ.

   فترة الركود: بمجرد أنْ ظهرتْ الحياةُ بشكلها الأوّل في السجل الأحفوري ظلت على حالها دون تغير لفترة طويلة (عدة طبقات صخرية). بل قد تبقى بعض الأشكال على حالها حتى يومنا هذا دون أي تغيّر ظاهري لعشرات أو مئات الملايين من السنين، أو أنها تبقى ثابتة غير متغيّرة إلى أن تنقرض فيما بعد. تدعى خاصية بقاء الكائنات الحية ثابتة في السجل الأحفوري مع مرور الزمن دون تغيّر يُذكر بـ (الركود)، ولذلك تُظهر الأحافيرُ بشكلٍ ساحقٍ تنوعاتٍ ثانويةً ضمن النوع الواحد بدلا من إظهار نوع واحد يتحول تدريجيا من شكل إلى آخر. وبهذا الحال يتّفق السجل الأحفوري مع ما يعلمه مربو الحيوانات والنباتات منذ زمن، وهو أنَّ انتقاء سلالات معينة قد ينتج تنوعات مثيرة وغير اعتيادية من الورود أو الكلاب، لكن أيًّا منهما لا يتغير عن كونه وردة أو كلبًا.

   الفجوات: على الرغم من ظهور الأحافير في تراتب زمني معين - سمك ثم زواحف ثم ثدييات - إلَّا أنَّ السجلَّ الأحفوريَّ لا يدعم الادّعاءات الداروينية بأن المجموعات التصنيفية الرئيسية مرتبطة ببعضها بأصل مشترك. لا يوجد مثلًا سلاسل متدرجة من الأحافير تملأ الفراغ بين الأسماك والبرمائيات أو بين الزواحف والطيور، بل تظهر الأحافير كاملة النمو والتمايز والوظيفة من أوّل ظهور لها في السجل الأحفوري. وتظهر أحافير الأسماك الأولى كل الصفات المعروفة للأسماك اليوم. وكذلك تُظهرُ الزواحفُ في السجل الأحفوري كلَّ صفات الزواحف الحية اليوم. هذا النمط ظاهر عبر السجل الأحفوري ككل. هناك ندرة شديدة في الأدلة على وجودِ السلاسلِ المتدرِّجَةِ من الأحافير الواقعةِ بين المجموعات التصنيفيَّةِ الكُبْرى، بدلًا من ذلك هناك فجوات عديدة عبر السجل الأحفوري[14].

   إن الانفجار الكامبري يشكّل التحدّي الأكبر لنظرية التطور المعاصرة، وإننا لنجد نفس الافتقار للأحافير الانتقالية المميزة للانفجار الكامبري عبر كل السجل الأحفوري. حتى أننا لو جمعنا كل البيانات الأحفورية من كل العالم، ومن كل الطبقات الصخرية (بغضّ النظر عن تاريخها المفترض) فلن نقدر على تشكيل سلسلة متدفّقة واضحة من المراحل الانتقالية. ومع اكتشاف المزيد من الأحافير ازدادت أهمية دلالة هذه الفجوات. يعلّق David Raup - عالم الأحافير من جامعة شيكاغو - على هذه المشكلة قائلًا:

   "لقد توسّع فهمنا للسجل الأحفوري بشكل كبير منذ نشر داروين لكتابه (أصل الأنواع) إلَّا أنَّنا لا نَمْلك حتى الآن سوى أمثلة قليلة من الأشكال الانتقالية بل أقلَّ مما كان معروفًا أيام داروين. أعني بذلك أننا اضطررنا لنفي بعض الحالات التقليدية المشهورة للتغيّرات الداروينية في السجل الأحفوري، كتطوّر الحصان في أمريكا الشمالية بعد ظهور المزيد من المعلومات المفصّلة حول ذلك"[15].

   وبالمثل قال ستيفن جاي جولد عالم إحاثة ومتّبع لنظرية التطوّر -: "الندرة الشديدة في الأشكال الانتقالية ضمن السجل الأحفوري مستمرّة وكأنها ملازمة لعلم الأحافير. إنَّ الأشجار التطوّرية التي تزيّن مناهج علم الأحياء مبنية على بيانات حقيقية تدلّ على نهاياتها وعقد التفرّع فيها، أما بقية الشجرة فهي من استنتاجنا النظري غير المدعوم بالدليل الأحفوري"[16].

   ويتابع غولد ليُعرّف سمتين تاريخيتين لمعظم الأنواع المتحجرة:

   الثبات: لا تُظهر معظم الأنواع أي تغيّرات موجهة خلال وجودها على الأرض، بل تظهر في السجل الأحفوري بشكل مشابه تماما لشكلها حين تختفي منه. إنَّ التغيُّرات الشكلية محدودةٌ عادة وغير موجهة.

   الظهور المفاجئ: لا يظهر النوع بشكل متدرج بتحول مستمر لسلفه التطوّري ضمن منطقة محلية، بل يظهر كله دفعة واحدة وبشكله الكامل"[17].

   ويصف عالم الأحافير الشهير (Steven Stanley) بجامعة جون هوبكنز هذا النقص في الدليل الأحفوري على تطوّر الأشكال الانتقالية في مستوى الجنس (تصنيفيا) قائلًا: "رغم الدراسة التفصيلية لثدييات العصر البليستوسيني في أوروبا لا يوجد أي مثال صالح ليكون سلفًا انتقاليًا تطوّريًا من جنس لآخر[18].

   مشكلة الاستدلال بالسجل الأحفوري:

   يقول كيسي لسكين عالم الأرض الأمريكي -: "إن التوغّل في تفاصيل المنشورات العلمية حول الموضوع يكشف لنا قصة مختلفة تمامًا عما يصفه وينزتون زغيره من التطوّريين في المناقشات العامة، سيوضّح هذا الفصل أن الدلائل الأحفورية مجزأة ويصعب فكّ رموزها ومحطّ نزاعات ساخنة.. فإن السجل الأحفوري يكشف انقطاعًا جوهريًا بين حفريات أشباه القردة وأشباه البشر، تظهر حفريات أشباه البشر في السجل الأحفوري فجأة ودون أسلاف تطورية واضحة!، مما يجعل فرضية تطوّر الإنسان اعتمادًا على السجل الأحفوري أمرًا مشكوكًا فيه"[19]. فما موجبات هذا الشك؟

   1- عينات الأحافير نفسها، فأحافير البشريين بالكاد تكون شظايا عظيمة متفرّقة مما يجعل من الصعب استخلاص استنتاجات حاسمة بشأن سلوك وشكل وعلاقات العديد من أصحاب هذه العينات، وكما قال ستيفن جاي جولد - عالم الأحافير التطوّري- : "إن معظم أحافير البشريين ليست سوى أجزاء من أفكاك وبقايا جماجم، رغم أنها تستخدم كأساس لحكايات وتكهنات كثيرة لا تكاد تنتهي"[20].

   2- يوجد القليل من أحافير البشريين المتباعدة، ومن غير المعقول ألا نجد سوى عدد قليل من الأحافير التي تم رصدها والتي تعود لتلك الفترة الطويلة التي يفترض حدوث تطوّر البشر فيها؛ قال دونالد جوهانسون - عالم الأحافير البشرية الذي اكتشف "لوسي" عام 1996م -: "إن نصف المدة الزمنية التي سبقت ظهور البشر- تقدر بثلاثة ملايين سنة - تظلّ غير موثّقة بأي أحفورة بشرية، في حين تمّ العثور على عدد قليل من الأحافير غير المصنفة التي تعود لفترة الملايين الأربعة الأخيرة (فترة تطور عائلة الأناسي منذ مطلعها)، لذلك فبيانات السجل الأحفوري مجزأة ومتشظية"[21]. وقال ريتشارد ليونتن عالم اليحوان في جامعة هارفارد-: "لا يمكن اعتبار أية أحفورة مكتشفة من أحافير عائلة الأناسي سلفًا مباشرًا للبشر"[22].

   3- إعادة بناء سلوك وذكاء الكائنات المنقرضة وشكلها الداخلي، فقد لاحظ مثلًا عالم الرئيسيات فرانس دي وال أن الهيكل العظمي للشمبانزي يطابق تقريبًا هيكل البونوبو (قرد قريب من الشمبانزي) إلا أن الاختلاف السلوكي بينهما كبير، يقول: "في ظل وجود عدد قليل فقط من العظام والجماجم لم يجرؤ أحد على تقديم أي اقتراح يعبر فيه عن الاختلاف الكبير في السلوك بين الشمبانزي والبونوبو"[23]، ويحتجّ دي وال بأن هذا يعطي إنذارًا قويًا لعلماء الأحافير الذين يبنون تفاصيل سلوكية وحياتية لكائنات منقرضة منذ زمن بعيد بناء على أجزاء من أحافير وجدت لها.

   4- قراءة الجسد البشري المنقرض عرضة للتحيز الشديد، فمن الممكن إخفاء القدرات الذهنية الذكية للبشر وتضخيم الحالة البهيمية، يصوّر أحد المناهج المدرسية عالية الشهرة (إنسان نياندرتال) ككائن بدائي الذكاء، حتى لو كان من آثاره الرسومات المختلفة واللغة والثقافة، ويصور الإنسان المنتصب بدور الأخرق المنحني رغم أن تحت القحف عنده شبيه جدا بما عند الإنسان المعاصر، وفي المقابل يصور نفس الكتاب القردة الأفريقية بمنحها لمحات من الذكاء البشري والمشاعر في عيونها، وهذه استراتيجية متّبعة في الكتب المصوّرة التي تتكلّم حول أصل الإنسان. ويعبّر عن ذلك جوناثان ماركس - عالم الأحاثي - بأنه "أنسنة" القرود أو "قردنة" البشر، ونقطة التحيز هذه تحدث فيها كثير من التطورين، فمثلا حضّ عالم الأحياء Harold Bold، على سبيل المثال، العلماء المشتغلين بتفسير السجل الأحفوري على "التمييز بين الدليل والتخمين". ثم أردف قائلا: "لا يوجد الآن أيُّ شكل حي أو أحفوري يربط بين أي مستويين تصنيفيين في المملكة النباتية بشكل قاطع"[24].

   5- مشكلة التمويل: لا يبعد المرء إذا قال أن النزاع في حقل علم الأحافير شخصي للغاية، ويعترف دونالد جوهانسون وويليام إدجر بأن الطموح والبحث الطويل عن الشهرة والتمويل يجعل من الصعب على عالم الأحافير أن يعترف بخطئه عندما يرتكبه، ويقولان: "إن ظهور الأدلة المتناقضة يلتقي أحيانا مع تكرار ثابت لنفس وجهات النظر حول أصولنا، نحتاج للكثير من الوقت للتخلص من النظريات البالية واستيعاب المعلومات الجديدة، وفي غضون ذلك توضع المصداقية العلمية والتمويل للمزيد من الأعمال العلمية حول الموضوع على المحك"[25].



[1] شك داروين، لستيفن ماير، ترجمة مركز براهين، ص29

[2] الحفريات هي بقايا حيوانات أو نباتات كانت موجودة في عصور جيولوجية سحيقة، تصل إلى ملايين السنين ثم ماتت وحفظت في الصخور الرسوبية، ونجد بقايا هذه الكائنات غالبا محفورة في الصخور.

للمزيد انظر كتاب: Fossils: A Very Short Introduction By Keith S. Thomson

[3] On Methods of Evolutionary Biology and Anthropology, American Scientist 46 (December 1957): 388

[4] What makes Biology Unique? Considerations on the Autonomy of a Scientific Discipline: 24 - 25

[5] On the Origin of Species (281 – 282)

[6] تصميم الحياة ( 127 – 128).

[7] أيقونات التطور، لجوناثان ويلز، ترجمة مركز براهين، ص56

[8] Evolution: A Theory in Crisis (187)

[9] انظر: أيقونات التطور، لجوناثان ويلز، ترجمة مركز براهين، ص 57

[10] تصميم الحياة (129 – 130).

[11] المصدر السابق (130).

[12] Phillip E. Johnson, “Darwinism’s Rules of Reasoning,” in Darwinism: Science or Philosophy by Buell Hearn, Foundation for Thought and Ethics, 1994, p. 12

[13] شك داروين ص234-235

[14] تصميم الحياة (131 – 132).

[15] Conflicts between Darwin and Paleontology, Field Museum of Natural History Bulletin (30)1 (1979): 25

[16] Evolution's Erratic Pace, Natural History 86(5) (May 1977): 12 - 16

[17] المرجع السابق.

[18] Macroevolution: Pattern and Process: 82

[19] العلم وأصل الإنسان، ص80

[20] المرجع السابق ص 81

[21] المرجع السابق.

[22] المرجع السابق.

[23] المرجع السابق (82).

[24] Morphology of Plants (515)

[25] العلم وأصل الإنسان (85).