title3

 banner3333

 

هل كان داروين على بيّنة من أمره؟

هل كان داروين على بيّنة من أمره؟

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

     فإن نظرية التطوّر تعدّ أشهر نظرية علمية يستدل بها الملاحدة على إلحادهم ويلجؤون إليها في الحديث عن الخلق، ويتخندقون بها في مناقشاتهم للمؤمنين. فنظرية التطوّر أسّ الإلحاد العلمي ولبّه في هذا العصر، ويدافع عنها الملاحدة بشراسة وفظاظة. وقد بالغ الملاحدة في الدفاع عن هذه النظرية إلى أن اتخذوه دينًا يدينون به، كما اعترف به أحد أشهر دعاة الإلحاد في العصر الحاضر مايكل روس حين قال: ((التطوّر دين. هذا يصدق على التطوّر في البداية، ويصدق على التطوّر حتى اليوم))[1].

     وسبب ذلك ما ذكره زعيم الملاحدة في هذا الزمان ريتشارد داوكينز: ((وإن أمكن الدفاع عن الإلحاد منطقيًا قبل داروين، فإن داروين جعله ممكنًا أن يكون الإنسان ملحدًا مقتنعًا عقليًا))[2]. فلنظرية التطور ارتباط وثيق بالإلحاد المعاصر.

     ويمكن أن يلخّص استدلال الملاحدة على إلحادهم بهذه النظرية في ثلاث مقدمات ونتيجة:

المقدمة الأولى: نظرية التطوّر نظرية مسلّم بها علميًا فتفيد اليقين.

المقدمة الثانية: الإيمان بالله مبني على الظن.

المقدمة الثالثة: نظرية التطوّر تتعارض مع الإيمان بالله.

النتيجة: قد تعارضت نظرية علمية يقينية مع الإيمان المبني على الظن، فيقدّم العلم اليقيني على الظن.

الكلام على هذه المقدّمات والنتيجة يطول وسيأتي نقده في مقالات قادمة، وأختصر الحديث في هذا المقال على المقدّمة الأولى التي هي الأساس. وقد ألّف علماء الغرب المختصون في علوم الطبيعة مؤلفات كثيرة جدًا في نقد نظرية التطوّر، فقد كفوني مؤنة الرد العلمي على النظرية. ولكنّي سوف أركّز في هذ المقال على مسألة معينة، وهي: هل كان مؤسس النظرية تشارلز داروين نفسه على يقين من نظريته؟

المطلّع على كتب داروين ورسائله الخاصة لأصدقائه يجد أنه لم يكن على يقين من نظريته، فقد علم أن هذه النظرية مبنية على أسس ظنية، بل وهمية.

      ومما يدلّ على ذلك أن داروين قد أفرد فصلًا كاملًا لكتابه أصل الأنواع لذكر عقبات نظريته، وما فيها من الإشكالات. وكتب في بداية هذا الفصل: ((قبل الوصول إلى هذا الجزء من عملي، سيصادف القارئ مجموعة كبيرة من العقبات، بعضها جسيمة جدًا بحيث لم أستطع أبدًا إلى اليوم تدبّرها دون الإصابة بالذهول))([3]).

      ويورد في هذا الفصل العديد من الإشكالات الواردة على نظريته. ومما كتب في هذا الفصل: ((إن كانت الأنواع قد نشأت من أنواع أخرى عن طريق تدرجات غير محسوسة، فلماذا لا نستطيع أن نرى في كل مكان عددًا لا يحصى من الأشكال الانتقالية؟ ولماذا لا تكون الطبيعة كلها في حالة من الفوضى بدلاً مما نراه من كون الأنواع واضحة الحدود؟  ... لكن، وفقًا لهذه النظرية يجب وجود عدد لا يحصى من الأشكال الانتقالية، فلماذا لا نجدها مطمورة بأعداد لا تحصى في قشرة الأرض؟ ... ولماذا إذًا لا يكون كل تشكيل جيولوجي وكل طبقة ممتلئة بهذه الصلات الوسيطة؟ لا تظهر الجيولوجيا دون شك أي سلسلة عضوية متدرجة بدقة؛ وربما يكون هذا الاعتراض الأكثر وضوحًا وجسامة مما يمكن أن يحمل ضد نظريتي([4]))).

      وفي نهاية كتابه أكّد أنه لم يكن على يقين من أمره فكتب: ((الآن قد لخصّت الأجوبة والتفسيرات التي يمكن تقديمها لهم بشكل موجز، لقد شعرت بالعبء الكبير لهذه العقبات خلال سنوات عديدة فلست أشك بحجمها))([5]).

وبعد الانتهاء من كتابته بدأ يشكّ في مدى جدوى هذا الكتاب إذ كتب في إحدى رسائله الخاصة: ((مع ذلك، فإني أشكّ فيما إن كان العمل (كتابة أصل الأنواع) يستحق استهلاك هذا الوقت الكثير))([6]).

لم يكن داروين متخصصًا في العلوم التجريبية، كما ذكر أحد أقرب أصدقاء داروين توماس هكسلي (Thomas Huxley) عن داروين: ((مثل بقيتنا، لم يكن لديه التدريب الملائم في علم الأحياء)) ([7]).

        ومع قلة علمه في هذا المجال فإنه قد أدرك أن نظريته قد خرجت عن إطار البحث العلمي، وقد اعترف بذلك في رسالة إلى صديقه المقرّب آسا غراي (Asa Gray) - البروفسور في علم الأحياء بجامعة هارفرد-:  ((أنا مدرك جدًا بأن تكهناتي تنطلق خارج حدود العلم الحقيقي تمامًا))([8]).

     وحين وجّه علماء الطبيعة في عصره سهام النقد لنظريته بدأ يشعر بالفشل، فكتب لصديقه السير جوزيف دالتون هوكر (Sir Joseph Dalton Hooker):  ((أظن أحيانًا أنني قريبًا سأفشل كليًا))([9]). ولم يقف عند ذلك، بل بدأ يفكّر في الانتحار كما ذكر في رسالة لأحد أصدقائه: ((أنت تسأل عن كتابي، وكل ما أستطيع قوله لك بأنني مستعد للانتحار؛ اعتقدت بأنه مكتوب بشكل متقن، لكني أجد أن الكثير منه يلزم إعادة كتابة...))([10]).

     ولعل من أسباب ذلك أنه لم يهاجمه علماء الطبيعة المعارضون لنظريته فحسب، بل قد اتخذه أحد أعز أصدقائه أضحوكة واستهزأ به، ورأى أن أجزاء من نظريته مجرّد العبث. فها هو صديقه العزيز أ. سيدفيك (A. Sedgwick)، يكتب له رسالة ويقول فيها: ((أحترم جدًا أجزاء منه، وأضحك من أجزاء حتى تقارب خاصرتي على التقرّح من الضحك، وأجزاء أخرى أقرأها بأسى شديد، لأني أعتقد أنها زائفة تمامًا وللأسف عابثة جدًّا ... إن الكثير من استنتاجاتك الواسعة مبنية على افتراضات...))([11]).

      فقد تبيّن خلال هذا المقال المختصر أن داروين لم يكن على بيّنة من أمره عند صياغته لنظريته. وسببه أنها نظرية مبنية على مجرّد افتراضات وتخمينات، وليست نظرية علمية يقينية الثبوت. وفي مقالات قادمة سأبيّن أن هذا الشكّ موجود عند كثير من علماء التطوّر إلى يومنا هذا، وإنما نجد هذا اليقين المطلق عند من غرق في مستنقع الإلحاد واتخذّ التطوّر دينًا يدين به. وإذا سقطت المقدمّة الأولى من المنطق الإلحادي فبقية المقدمات فضلًا عن النتيجة أولى بالسقوط.

كتبه: جوهانس كلومنك (عبد الله السويدي) - باحث في يقين لنقد الإلحاد واللادينية -

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.


[1] How evolution became a religion: creationists correct? National Post, pp. B1,B3,B7 May 13, 2000.

 p.6 [2] The Blind Watchmaker

([3]) أصل الأنواع، الفصل 6 – "العقبات المعترضة للنظرية.

([4])أصل الأنواع، ص. 172، 280

([5]) أصل الأنواع، الفصل 14 – "إيجاز وخلاصة"

([6]) فرانسيس داروين، حياة تشارلز داروين ورسائله، الجزء I، نيويورك: D. Appleton and Company، 1988، ص. 315

([7])فرانسيس داروين، حياة تشارلز داروين ورسائله، الجزء I، ص. 315

([8]) N.C. Gillespie، تشارلز داروين ومشاكل اخلق، جامعة شيكاغو، 1979، ص.2.

([9])فرانسيس داروين، حياة تشارلز داروين ورسائله، الجزء II، ص. 152

([10])فرانسيس داروين، حياة تشارلز داروين ورسائله، الجزء II، ص. 501

([11])فرانسيس داروين، حياة تشارلز داروين ورسائله، الجزء II، ص. 43