title3

 banner3333

 

الرياضيات التطورية؟

الرياضيات التطورية؟

     من المحتمل أن معظم الناس قد سمعوا "بالبيولوجيا التطوّرية"، لكن مصطلح "التطوّر" عادة ما يستعمل بمعنى أوسع نسبة لمجالات أخرى من مجالات الدراسات العلمية (ويراد به تغيّرات طبيعية تدريجية عبر أزمنة طويلة)، وبعض الأشخاص يدرس البيولوجيا أو علم الفضاء من منظور تطوّري. لكن، هل سبق لأحد ما أن درس "الرياضيات التطورية"؟ ما الذي يمكن لعالم رياضيات تطوّرية دراسته؟ وهل يمكن أن يفسّر وجود الأعداد والقوانين الرياضية بأصل موافق للمذهب الطبيعي (Naturalism) من زاوية الزمن والصدفة؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، لنأخذ بداية بعين الاعتبار بعض التعاريف والخلفيات المادية. فالرياضيات: هي دراسة علاقات وخصائص الأعداد. ومن ثم نتساءل إذن: ما هي الأعداد؟

يبدو أن هذا السؤال واضح باعتبار أن الأعداد من أساسيات التفكير لدينا. لكن أحيانًا تكون هذه المفاهيم الأساسية عصية على التعريف. ربما يقف هذا السبب وراء إعطاء العديد من المعاجم المختلفة لهامش واسع من التعريفات لكلمة "عدد". ولعل من أفضلها: "مفهوم للكمّية يمكن أن تكون وحدة منفردة [1] أو متفرعة عنها، أو مجموعة من الوحدات المضافة إلى بعضها البعض، أو الصفر"(1).

إن الأعداد عبارة عن مفاهيم، لذا فهي مجرّدة في الطبيعة، ووجودها مقتصر على عالم التفكير دون الواقع المادي أو المحسوس. ليس بإمكانك أن تلمس عددًا أو حتى رؤيته، لأنه ليس مصنوعًا من المادة. وهذه الحقيقة تربك بعض الأشخاص، لأننا غالبًا ما نتحدّث عن النقوش المكتوبة للأعداد كما لو كانت هي الأعداد نفسها. تصوّر مثلًا أني أكتب العدد ثلاثة، فلو نظرت إلى ما كتبت فهل أنظر إلى عدد حقيقي؟ الإجابة هي لا، ولو محوت ما كتبت فهل أكون قضيت على العدد ثلاثة؟ لو كان ما كتبته هو العدد ثلاثة نفسه، فهل عندما أمحوه أكون قد محوت ثلاثة نفسها؟ بالطبع لا.

إن التعبير الكتابي للعدد ثلاثة والمسمّى "رقمًا"، هو تمثيل محض للعدد، وليس نفس ماهيته. وإزالة الرقم لا تعني فناء العدد مطلقًا. وفي الحقيقة، فالعدد ثلاثة موجود حتى قبل أن يكتب الرقم الذي يمثلّه.

وكذلك الحال بالنسبة لكلمة "أسد"، فلو كتبت على ورقة فإنها تمثّل شيئًا معينًا، لكن محو الكلمة لا يؤثّر البتة في الأسد نفسه. لكن في الوقت الذي يمثّل فيه لفظ "أسد" حقيقة مادية، أي شيئًا يُرى ويُلمس، فإن الرقم يمثّل شيئًا مجرّدًا بخلاف الأوّل، ومع ذلك فهو موجود. ومع أن مفهوم العدد يمكن نقله لأشياء مادية، فإن العدد نفسه ليس بمادي.

على القول بأن الأعداد غير مادية فهل لها وجود في الخارج؟

يمكن لبعض الأشخاص أن يظنّوا أن الأشياء المادية هي ما كان موجودًا فقط: أي أن الموجودات إما مادة أو طاقة(2). لكن بالطبع، ففي الرؤية الكونية الدينية توجد حقيقة ماهيات غير مادية. والله نفسه مثال واضح على هذا. فهو موجود لكنّه ليس من مادة ولا طاقة. لذا فالرؤية الكونية الدينية تسمح بوجود حقيقي للأعداد، وإن لم تكن أشياء مادية. إن للأعداد من الخصائص ما يكون معدوم المعنى لو لم تكن الأعداد موجودة. فلو كانت حقًا غير موجودة لما استطعنا استعمالها (حاول استعمال ما لا وجود له، إنه لصعب جدًّا!). وهذا ينطبق أيضًا على المنطق والحبّ والقانون. فمن الواضح إذن أن الأعداد موجودة، إلا أنها ذات ماهيات مجرّدة.

عادة ما يتمّ في البداية الاستعانة بشيء مادي عند تدريس الأعداد للأطفال، فيقال لهم مثلًا: ثلاث تفاح أو ثلاثة صخور. هذه الأشياء مادية لكن "الثلاثية" ليست كذلك. ومع أن الكمّية مفهوم، إلا أنها ممكنة التطبيق على أشياء مادية مع انفصال وجود هذه عن تلك. فعلى سبيل المثال، لم أر قط 1.200.436.172 تمثيلًا ماديًا لشيء معيّن [أي مكوّنًا من هذا العدد من الوحدات] ومع ذلك فالعدد ما زال له معنى. أنا أعلم أنه أكبر من 1.200.436.171 وأصغر من 1.200.436.173 رغم عدم قيامي بعد شيء مادي بهذه الكمية أبدًّا. إن الأعداد كما ذكرنا لا يتوقّف وجودها على تشكلها في الأشياء ذات الوجود المادي. هل بإمكان الرؤية الكونية العلمانية إعطاء معنى للمفاهيم المجردة كالأعداد؟

ما هي قوانين الرياضيات؟

 قوانين الرياضيات هي القواعد التي تصف العلاقات بين الأعداد. فقانون تبادلية الجمع مثلًا يظهر لنا أن 2+3=3+2. هناك العديد من قوانين الرياضيات، وبعضها يتفرع منطقيًا أو رياضيًا من قوانين أخرى. إنها قوانين كونية، وثابتة، ومطلقة ومجرّدة. لنلق نظرة على كل واحدة من هذه المميزات.

الكونية: فهذه القوانين تطبّق في كل مكان، فعندما تضيف اثنين إلى ثلاثة في أوروبا، فإننا نحصل على ذات النتيجة تمامًا في الولايات المتحدة. ولهذا السبب فقوانين الرياضيات تعمل كذلك على المريخ، أو في أية مجرّة غير مجرّتنا. أو في قلب نجم فلكي بعيد. والعديد من قوانين الطبيعة، بما فيها قوانين الفيزياء والكيمياء هي بالأساس قوانين رياضية. لذلك لو كانت القوانين الرياضية مختلفة حسب جهات الكون لكان من المفترض أن تتغيّر قوانين الفيزياء والكيمياء أيضًا بشكل غير متوقّع، وبالتالي ستغدو دراسة علم الفضاء مستحيلة.

الثبوت: من حيث الزمن، فكما أن 2+3=5 اليوم، فكذلك كانت بالأمس وكذلك تكون غدا. إن قوانين الرياضيات تظل ثابتة في جميع الأزمنة.

الإطلاق: 2+3 لا تساوي عادة 5، بل إنها دائمًا تساوي خمسة. ولا وجود لأيّ استثناء من هذه القاعدة مطلقًا.

التجريد: كما الأعداد نفسها، فإن القوانين الرياضية تتّسم بأنها مجرّدة ومتصوّرة في الذهن من حيث طبيعتها، فلا يمكن رؤيتها أو الشعور بها أو تحريكها أو أكلها. وبالطبع، فبوسعنا كتابة تعابير تمثل هذه القوانين، كما نمثل الأعداد بالأرقام. لكن إزالة التعبير لا يفني القانون الذي يمثله.

هل الرياضيات من إبداع الإنسانية؟

افترض بعض الأشخاص أن الرياضيات مما أنتجه البشر، كالصحافة الورقية أو جهاز الاحتراق الداخلي. لكن هل الأعداد والقوانين الرياضية من إبداع الإنسان حقًا؟ إن ما ينتجه ويصمّمه البشر من أشياء يمكن أن يتمّ كذلك بشكل مختلف. فعندما يخترع شخصان كل منهما مستقل عن صاحبه شيئًا من نفس النوع، فستكون هناك فروق في التصميم والتركيب بما أن كلا من الرجلين أخذ بمقاربة إبداعية مختلفة لحل مشكل هندسي. بل أكثر من هذا، فإن تصاميم إبداعات متنوعة صنعها البشر قد تم تحسينها انطلاقًا من نقطة الصفر كما هو حال الحلول الجديدة المبتكرة في اقتراحها والتكنولوجيات في تطويرها.

لو كانت الرياضيات صنعًا بشريًا، لأمكننا إذن توقّع أن تظهر كذلك نفس المميّزات. فنتوقّع قوانين مختلفة باختلاف علماء الرياضيات، وتحسينات في عدة قوانين كلما تقدم الزمن. وبالتالي كما يتغيّر المجتمع تتغيّر هذه القوانين. لكن هل هذا ما نجده على أرض الواقع؟

إن مما لا يتطرّق إليه الشكّ أن التعبيرات الكتابية لقوانين الرياضيات من صنع البشر، فهناك العديد من الترميزات المختلفة مستعملة في مجالات متنوّعة من فروع الرياضيات. والكثير من رياضيي الماضي استعملوا ترميزات مختلفة للتعبير عن الحقائق الرياضية. والبعض منها أكثر فائدة من بعض، بينما الأقلّ فائدة غالبًا ما يبقى طي النسيان. وعلى أية حال، فهذه الرموز المختلفة هي محض طرق مختلفة للتعبير عن نفس الحقيقة الرياضية. مثلّا: تعبّر الأرقام الرومانية عن نفس الأعداد التي تمثّلها الأرقام العربية المألوفة أكثر. فلدى كل الرياضيين نفس القوانين، إلا أنهم فذ يستعملون رموزًا ونظمًا مختلفة للتعبير عنها.

إن قوانين الرياضيات من اكتشاف البشر كما أن كتابتها من فعلهم. وكما سلف مناقشته، فهذه القوانين لا تتغيّر عبر الزمن. ولأجل ذلك فقد وُجدت قبل وجودهم. من الجلي إذن، أنها ليست صناعة بشرية. فقد كانت المعادلة 2+3=5 صحيحة قبل وقت طويل من أن تخطر ببال احد، أو قبل أن يحققها، أو يكتبها.

أصل الرياضيات:

كيف نستطيع أن نعطي سببًا لأصل وخصائص الأعداد أو قوانين الرياضيات التي تصفها؟ لنعتبر أولًا الرؤية التطّورية أو الموافقة لمذهب الطبيعة. فبهذا النحو من التفكير يحاول الناس تفسير مميّزات شيء حديث عن طريق اعتبار كيف تطوّر بالتدريج عبر ملايين أو ملايير السنين انطلاقًا مما هو أقلّ تعقيدًا. ولو طبّقنا هذا المفهوم على الرياضيات لتساءلنا: "من أين تطوّرت الأعداد؟ ما كانت الأعداد قبل أن تكون أعدادًا؟ ومتى بدأ الكون المادي في الخضوع لقوانين الرياضيات؟".

خذ عددّا ما، 7 مثلًا. من أي عدد أبسط تطوّر العدد 7؟ هل كان 7 مرّة واحدة 3؟ وهل كان على 3 الانتقال عبر 4 و5 ثم 6 قبل أن تصبح 7؟ أين تطوّرت الأعداد السالبة؟ ومتى بدأت الخضوع لقوانين الرياضيات؟ وهل تطورت هذه القوانين قبل الأعداد أم العكس؟

إن بدا هذا النوع من الأسئلة سخيفًا، فلأنها كذلك. إن القول بتطوّر الأعداد عديم المعنى مطلقًا. لقد كانت 7 دائمًا 7، تمامًا كما أن 3 كانت دائمًا 3. وعلى النحو ذاته، فالتعبير الرياضي 2+3=5 كان صحيحًا في بداية الدهر صحّته اليوم. إن الاعداد والقوانين التي تحكمها لا تتغيّر مع الزمن، لذلك فمن غير الممكن تطوّرها من العدم!

عندما يتعلّق الأمر بالرياضات فإن العلماني يجم، إنه يعلم أن الحقائق الرياضية وُجدت قبل أن يكتشفها البشر. فمثلًا: وصفت مدارات الكواكب حول الشمس بواسطة الصيغة الرياضية المتمثلة في قوانين كبلر قبل وجود البشر (الصيغة لا الصياغة). ومع ذلك فقوانين الرياضيات في طبيعتها تصورية. إن المفاهيم مكانها العقل، وهي موضوعات للتفكير. فكيف يمكن لماهية تتصور كالرياضيات أن توجد قبل أن يعمل أي عقل التفكير فيها؟

كيف يقال أن الأعداد تصوّرات - أي أنها نتاج العقل - وهي تتجاوز قدرة العقل البشري إلى الفهم الكامل (كاللانهاية) وتتقدّم عليه في الوجود؟ الجواب: أن الأعداد ليست نتاج عقل بشري، بل إنها من عند الله. إن المعضلة الرهيبة التي يواجهها العلماني لا تحصل في الرؤية الكونية الدينية، أما المؤمن بالخلق فلا إشكال لديه في وجود كيانات تصوّرية قبل العقول البشرية لأنها ليست العقول الوحيدة الموجودة في هذه الرؤية ...

إن قوانين الرياضيات انعكاس لما يراه الله عن الأعداد ... إن هذه القوانين حقيقية وليست مادية، تمامًا كما أن الله تعالى غير مادي في كنهه.

يستطيع المؤمن بالخلق أيضًا أن يبيّن معقولية خضوع الكون لقوانين الرياضيات. إن الله يؤيّد الكون وذلك في بيان قوّته. لذا فمن الطبيعي أن يتوافق الكون مع تدبير الله. والبشر بوسعهم التفكير واستعمال الرياضيات لأن الله هو الذي خلقهم ... إننا نستطيع استعمال الرياضيات لفهم المشاكل وحلها في الكون المادي لأنه مخلوق من خالق هذا الكون. وخصائص هذه القوانين وفائدتها تبدو معقولة جدًّا للمتديّن المتوافق [مع نفسه]. لكن الرياضيات وببساطة ليست قابلة للتفسير وفق القول بالتطور والطبيعة.

سنة 1960، أصدر الفيزيائي إيغين ويجنر مقالًا كلاسيكيًا من وجهة نظره العلمانية عن موضوع لماذا يخضع الكون المادي لقوانين الرياضيات. يشير عنوان المقال "الفعالية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية" إلى الإشكال بالنسبة للرؤية الكونية العلمانية وهو مسألة خضوع الكون لقوانين الرياضيات. ورغم كفر ويجنر فإنه يقول: "من الصعب تجنّب الإحساس بأن معجزة تواجهنا هنا ... أو معجزتي وجود قوانين الطبيعة وقدرة العقل البشري على التكهن بها". حقًا! كيف يمكن أن تفهم واحدة من حوادث الطبيعة حادثة أخرى؟ يقول ويجنر في ختام مقاله: "إن معجزة ملاءمة لغة الرياضيات لصياغة قوانين الفيزياء هدية رائعة لا نفهمها ولا نستحقها".

إن فيجنر محقّ تمامًا في أن موافقة القوانين الرياضية المجرّدة للأشياء المادية لا يمكن فهمها انطلاقًا من موقف علماني. وبالطبع، فالمؤمن بالخلق يستطيع إعطاء السبب وراء نجاح الرياضيات في صياغة القوانين العلمية. إننا نتوقع هذه المعقولية لأن الكون مخلوق من الله.

بالنسبة للعلماء العلمانيين، من المغري لهم طلب تفسير تطوّري للأشياء التي فسّرت فقط بصدق بخلق الله لها. وسواء كانت الأشغال المعقدة لكائن حي، أو وجود النظام الشمسي، فإن التغيّر التدريجي على الزمن يعتبر "الخالق" وليس الله. إنهم يطوّرون فكرة أنه بمجرّد إعطاء وقت كاف، فإن المستحيل سيغدو واقعا لا محالة عبر التطور الطبيعي التدريجي.

وبالطبع، هناك العديد من الأسباب لرفض هذه التخمينات عندما يتم فرقعتها في مجال البيولوجيا أو علم الفضاء. لكنّ نادرًا ما ستسمع حكاية تطورية عن أصل الرياضيات لا لشيء إلا لأن الأمر مستحيل. لا يمكن للأعداد أن تكون تطورت لأنها لا يمكن أن تتغيّر. أما أهم جزء في هذا كله، فهو أن العلماء العلمانيين لا يحاولون حتى تفسير الرياضيات البتة. فهي أصلًا مجال موافق لمذهب الخلق من مجالات العلم. هناك علماء بيولوجيا يؤمنون بالخلق وآخرون تطوريون، والفريقان موجودان في علم الجيولوجيا، لكن إن كانت الرياضيات، فالكلّ طوعًا أو كرهًا مؤمن بالخلق.

اسم المقال بالإنجليزية: Evolutionary Math?)).

بقلم د. جايسن ليزلي (Jason Lisle) (عالم أمريكي، يحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفضائية ومؤلف العديد من الأبحاث العلمية).

ترجمة: يقين لنقد الإلحاد واللادينية.


المصادر:

1-Collins English Dictionary, 10th ed. 2009. HarperCollins Publishers. Posted on dictionary.com, accessed October 10, 2012.

2-This view is called “materialism.”

3-Wigner, E. P. 1960. The Unreasonable Effectiveness of Mathematics in the Natural Sciences. Communications on Pure and Applied Mathematics. 13(1):1-14.