title3

 banner3333

 

الإلحاد والأخلاق

WhatsApp Image 2017 12 20 at 11.18.20 AM


 بقلم رضا زيدان. 

     يؤكّد الملاحدة الجدد باستمرار وفي كل مناسبة على أن للأخلاق أهمية كبيرة، وأن هناك حقوق للإنسان وقيم عليا كالحرية يجب الحفاظ عليها. وعادة ما يصحب ذلك التأكيد ذمّ ونقد لاذع للكتب المقدّسة لدى النصارى والمسلمين. وفي السياق الغربي كثيرًا ما تتّهم بعض النصوص الإنجيلية والقرآنية بالوحشية، لكن مهلًا، ما الذي يجعل من شيء ما كالقتل بلا موجب والإبادة الجماعية وما فعله هتلر وغير ذلك شرًّا؟ ما هو معيار الخير والشرّ على أسس إلحادية؟ نعم يمكن للملحد أن يقوم بأفعال أخلاقية، لكن هذا شيء وتبرير الفعل الأخلاقي وتقديم أساس أخلاقي له شيء آخر. 

     يزعم ريتشارد دوكينز أننا نعرف الصواب من الخطأ. ويؤكّد دانيال دينت الواقعية الأخلاقية؛ ويؤمن أن القيم الأخلاقية هي سمات موضوعية في العالم[1]. يستخدم كريستوفر هيتشنز مصطلحات "الخير والشر" و"الصواب والخطأ" و"الأخلاقي وغير الأخلاقي" بنشاط      وديناميكية[2].  ويدّعي سام هاريس أن القاعدة الذهبية هي "المبدأ الأخلاقي الرائع"، وينفي تمامًا كونه من القائلين بالنسبية الأخلاقية[3]. ولكن ما هي النظرية الأخلاقية التي يقدموها لتبرير هذه المعتقدات وهذه التأكيدات؟

     أما دوكينز فيحاول بالنسبة لوضعه معالجة هذه المشكلة عن طريق تأصيل الفعل الأخلاقي في التطوّر البيولوجي. فيرى في مقدّمة كتابه الجين الأناني "أننا آلات نجاة، أجهزة آلية مبرمجة بشكل أعمى للحفاظ على الجزيئات الأنانية المعروفة باسم الجينات"[4]. يرى في نظرته للأشياء أنَّ معتقداتنا وتطلّعاتنا الأخلاقية محدّدة سلفًا، مهيئةً آلاتنا الوراثية المبرمجة بأنانية لتطوّر الحقل الجيني. يوافق دوكينز على أن "الطريق الأكثر وضوحًا الذي تضمّن فيه الجينات بقائها "الأناني" نسبة إلى الجينات الأخرى هو من خلال برمجة الكائنات الفردية على أن تكون أنانية"[5]

     من ناحية أخرى فهو يوافق على أن الجينات الأنانية في بعض الأحيان "تضمّن بقائها الأناني من خلال التأثير على الكائنات الأخرى لتتصرّف بإيثار" أو "بأخلاق". يحدث هذا خصوصًا عندما توجد علاقة القربى مع الكائن الآخر كأن يكون أخًا أو أختًا أو أبناءً. وقال موضّحًا لذلك: "من المرجّح إحصائيًا أن ينفع الجين الذي يبرمج الكائنات الفردية لتفضّل ذوي القربى الجينية نُسَخه هو"[6]

     وليس إيثار الأقارب هو البرمجة الأخلاقية الوحيدة، بل هناك وسيلة أخرى وهي الإيثار المتبادل، والذي يختصره بفكرة "حكّ ظهري لأحكّ ظهرك" ولا يقتصر دوره على ذوي القربى، إنما يحدث أيضًا بين أفراد النوع الواحد، وحتى بين أفراد أنواع مختلفة. ويشار إليها أيضًا باسم "تكافل"، هذا النوع من العلاقة هو الذي "يستفيد منه كلا الطرفين"[7]

     إن دوكينز وأغلب التيار التطوري يرون أن الإيثار (العنصر الأخلاقي الأسمى) برمجة داروينية وليست فعلًا إراديًا! ونحن نسمّي فعلًا ما بأنه "حسن" لأن جيناتنا وعبر دهور من الكفاح التطوّري دفعتنا للاعتقاد بذلك. من الواضح أن النظرية البيولوجية لا تقدّم حلًا لتبرير الأخلاق، بل هي في حقيقة الأمر تنفي وجود الأخلاق. 

     يؤكّد دانييل دانيت أيضًا على الواقع الأخلاقي ويرغّب بتجنّب النسبية الأخلاقية. ويجادل بضرورة اتّخاذ موقف علمي تجاه الأخلاق، لكن يجب أن نلتزم ضمن ذلك الموقف بـ "القيم السامية المتعلّقة بالصواب والعدالة"، لكنه لم يقدّم أيضًا تبريرًا للأخلاق على أساس إلحادي إلا تبريرًا إيمانيًا؛ فهو يرى أن السبب الوحيد للالتزام بهذه القيم هو أن "نقبل بأنَّ هذه القيم [السامية] هي التزام لا مفرّ منه للمشاريع البشرية التي نشارك فيها، أي ببساطة بكوننا أحياء (البقاء على قيد الحياة والبقاء آمنين)"[8]. ومن الواضح أنه يصادر على المطلوب، لأن البحث في كون هذه القيم سامية أصلًا. 

     يمكننا نبيّن مشكلة الأخلاق لدى الملاحدة على النحو التالي: 

1- إذا كانت المفاهيم الأخلاقية مثل الخير والشر موجودة موضوعيًا، فيجب أن يكون هناك أساس موضوعي لوجودها.

2- لا يقدّم الإلحاد أيَّ أساسٍ موضوعي لوجود مفاهيم أخلاقية مثل الخير والشر.

3- لذلك فبالنسبة للملحد يجب ألا توجد المفاهيم الأخلاقية مثل الخير والشر بشكل موضوعي[9].

     ورغم أن الملحدين الأربعة (دوكينز، وهاريس، ودانيت، وهيتشنز) لا يقرّون صراحة بأن الإلحاد بائس أخلاقيًا، ويلزم منه عدمية وعبث، إلا أن هناك ملحدين قد صرّحوا بذلك؛ فمثلًا يعتبر ميشيل روس - عالم الأخلاق التطوّرية والفيلسوف الملحد - جنبًا إلى جنب مع زميله إدوارد ويلسون أكثر صراحة والتزامًا بالإقرار بأنَّ الأخلاق لا يمكن أن توضع على أرض صلبة من ناحية التطوّر الحيوي الطبيعي، ويقولون ذلك على هذا النحو:

     "الأخلاق - أو بدقة أكبر إيماننا بالأخلاق - مجرد تكيّف أخذ مكانه لتعزيز تكاثرنا في النهاية. وبالتالي فإن الأساس الأخلاقي لا يكمّن في مشيئة الإله، ولا في الجذور المجازية للتطوّر أو أي جزء آخر من إطار عمل الكون. وبالمعنى المهم فإن الأخلاق عبارة عن وهم خدعتنا به جيناتنا لإجبارنا على التعاون فيما بيننا. ليس لها أرضية خارجية تستند عليها. الأخلاق هي نتاج التطوّر، لكن لا يمكن للتطوّر أن يبرّرها لأنها مثل، خنجر ماكبث[10]، فهو يخدم هدفًا مهمًا دون وجوده حقًا ... ولكن على خلاف خنجر ماكبث فإن الأخلاق وهم مشترك عند جميع البشر"[11].

       إذًا الأخلاق هي شيء يؤمن به معظمنا، لكنها ليست موجودة في الحقيقة. وهذا هو حقاً منتهى الموقف الأخلاقي للملحدين الجدد، سواءً أدركوا ذلك أم لا.

الخلاصة: لا يمكن للمرء أن يتّخذ موقفًا أخلاقيًا موضوعيًا ثابتًا إلا أن يكون لديه أساس أخلاقي مطلق، ولا يكون هذا متمثلًا إلا في إيمانه بإله عليم حكيم. 


 

 [1]انظر: God Is Great, God Is Good, 2009, edited by William Lane Craig & Chad Meister, p.110

[2] انظر على سبيل المثال مناظرة هيتشنز مع آل شاربتو: (https://www.youtube.com/watch?v=HPYxA8dYLBY)

ومناظرته مع أليستر ماكغراث (https://www.youtube.com/watch?v=y0Q0o5une8Y).

[3] انظر: Letter to a Christian Nation: 11

[4] The Selfish Gene, p. v.

[5] The God Delusion (216)

[6] المصدر السابق.

[7] God Is Great, God Is Good (113)

[8] Breaking the Spell: Religion and a Natural Phenomenon: 376

[9] God Is Great, God Is Good (115)

[10] هذا المثال مأخوذ من رواية وليام شايكسبير أن ماكبث عندما أ راد أن يقتل الملك دونكان فإنه يهلوس أنه يرى الخنجر تطير في الهواء.

[11] The Evolution of Ethics, in Philosophy of Biology (316)